عن المعاهدات مرة أخرى ؟

 

السؤال:

فضيلة الشيخ : قرأت ما كتبته عن المعاهدات ، والحقيقة أنني متحير في أمر وهو أن المعاهدات السياسية لم يُؤخذ فيها فتاوى الفقهاء عندما وضعت ، فلماذا الحكام حريصون هذه الأيام على الفتاوى الشرعية لهذه الدرجة ، أقصد ليس هذا من عادتهم ، ثم لماذا كل هذه الحماسة من قبل بعض العلماء ، لاضفاء الشرعية على سياسة الحكام الخارجية ومعاهداتهم فجأة مع أن الفتاوى يطلق بأنها لازمة وشرعية دون تفصيل ولاتفريق ، والله لقد تحيرنا ، ولم نعد ندري ما هو شرعي وما هو ليس بشرعي ، في السياسة يقولون أوضاعنا السياسية نتيجة خيانة أو عمالة أو تبعية للغرب ، أو تفريط الحكام بواجبهم حتى ضيعوا رعاياهم ، وقضايا الامة أصبحت ضحية لهذا الوضع ، وفي الشرع يقولون المعاهدات شرعية ولاتعترضوا عليها ، مع أن الحاكم لايقيم الشرع أصلا ، ثم أرجو أن توضح لنا الفرق بين الكافر الحربي والذمي والمعاهد والمستأمن بارك الله فيكم .

**********************

جواب الشيخ:

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد :

الأخطاء المنهجيّة عند هؤلاء الذين يطلقون القول بشرعية المعاهدات السياسية ، تكمن في خمسة وجــوه:

الأول : أن هذه المعاهدات هي من آثار طبيعة العلاقة بين دول المنطقة والغرب ، وهي علاقة رسمت إبان الاحتلال الغربي في القرن الماضي ، وروعي في هذه العلاقة أن تبقى دول المنطقة تابعة سياسيا ، وملحقة اقتصاديا ، وضعيفة عسكريا للغرب ، وكل المعاهدات تنزل على هذه الأرضية والخلفية بطبيعة الحال وحينئذ فالأصل الذي تبنى عليه هذه المعاهدات هو مراعاة بقاء المسلمين ضعفاء، تابعين ، مهضومي الحقوق .

وثمة نقطة بارزة وأساسية لدى الغرب ، كانت بمثابة الهاجس في كل علاقة سياسية مع الدول العربية والإسلامية ، وهي مراعاة حماية الكيان الصهيوني في رسم أي معاهدات مع دول المنطقة ، وحينئذ فعندما نتحدث عن المعاهدات الشرعية ، فبينهـا وبين هذا الواقع بون شاسع !

الثاني : أن هذه المعاهدات عندما أبرمت مع الكفار لم يكن أساسها ولا مبناها ولا شروطها قائمة على الشريعة أصلا ، ولكن احتاج عاقدها توقيع الشرع عليها ليوظف ذلك لأسباب سياسية فقط !

الثالث : أن هذه المعاهدات لم يطلع عليها الفقهاء الذين يفتون الآن بأنها شرعية ، ولن يطلعوا عليها ، فإن تصدّق عليهم (ولي الأمر) وأطلعهم على طرف منها فبقدر ما يسمح له بتوظيف فتواهم فحسب ، ولم يعد هذا خافيا إلا على المغفلين.

ولن يُسمح ـ ما دامت الدول العربية تخشى أن توصم بـ(ولاية الفقيه) ـ لفقيه شرعي في البلاد العربية ، أن يكون له أي دور رقابي أصلا على المعاهدات السياسية ، بل ما زال يُعـدّ تدخلهم في السياسة الخارجية خطيئة كبيرة ، يعاقبون عليها لو تجرأوا !!

فكيف يفتون بشرعية ما ليس لهم الحق أن يعرفوه ، فضلا أن يكون لهم عليه سلطة رقابية ، فضلا أن يشاركوا في صياغته، دعك من القول أنهم يصيغون المعاهدات الصياغة الشرعية !!

الرابع : أن جميع العقود في الشريعة الإسلامية سواء كانت تحدد طبيعة العلاقة بين الدولة الإسلامية وغيرها ، أو بين الدولة والشعب ، أو بين أفراد الشعب ، بصفتهم أفرادا أو مؤسسات ونحو ذلك ، جميعها قد تكون صحيحة أو باطلة ، وذلك يتوقف على طبيعة العقد وشروطه ، لايمكن بحال أن يكون العقد شرعيا وصحيحا ونافذا لأن الحاكم أبرمه فحسب ، فيكون مصحح العقد هو كون السلطة فعلته ، كأنها نظرية الحكم الإلهي .. سبحانك اللهم هذا بهتان عظيــم !!!

ولنضرب على هذا مثالا حيا :

ما يُسمّى (خارطة الطريق) أليست معاهدة وقع عليها ( ولاة الأمر ) ، ثم من أيّ شيء انطلقت ، على أيّ أساس بنيت ، وإلـى ماذا تهدف ؟

انطلقت والله الذي لا إله إلا هو من مكر اليهود والصليبيين ، وبنيت على أساس شرعة الطاغوت ، وتهدف إلى إنقاذ الصهاينة من حراب المجاهدين .

فليت شعري ، من يفتي اليوم بأنها معاهدة أبرمها ( ولاة الأمـر ) ، فلاتجوز مخالفتها ولو بإعانة المجاهدين بالمال والنفس ، فهو أفّاك مفتر على دين الله تعالى ، متقوّل على الله بغير علم ، ساع في المسلمين بالفساد ، مخذل عن الجهاد ، وقس على هذا كل المعاهدات التي تكون منطلقاتها مثل ( خارطة الطريق ) ، ولعمري كم يوجد اليوم من مثل ( خارطة الطريق ) . * ولنضرب مثالا آخر : الاحتلال الصليبي للعراق ، فستوقـع ـ لاقدر الله ـ الحكومة الجديدة الموالية للصليبين ـ نسأل الله أن لاتوجد ـ معاهدات مع أمريكا ، ومع الدول المجاورة ، سيكون منطلقها ومبناها وهدفها تكريس الوضع الاستعماري الجديد ، فهل نقول هي أيضا شرعية ولازمة. ألا فليحذر الذين اتخذوا دين الله تعالى لعبا ولهوا ، واشتروا بآيات الله ثمنا قليلا ، يتقربون بدينهم إلى الحكام الظلمة الخونة ، فليحذروا من مشهد يوم عظيم ، يوم يوقفون بين يدي رب العالمين ، فيسألهم عما أفتوا في دينه بغير علم ، ولا هدى ، ولا كتاب منير .

الخامس : أن المعاهدات الدولية للدول الموقعة على عقد الأمم المتحدة ، تخضع للقانون الدولي الذي يحكم مواثيق الأمم المتحدة ، وهو قانون طاغوتي كافر مبني على الإشراك بالله في حكمه ، فليت شعري ما فائدة أن نرقع بشريعة الله تعالى ، ما بني على أصل شركيّ ، وهل ينفع الترقيع بعد اتســاع الخرق

كنا نداريها وقد مزقــت ** اتسع الخرق على الراقــع
كالثوب إذا أنهج فيه البِلى** أعيا على ذي الحيلة الصانع

وليعلم الزعماء الذين ابتليت الأمة الإسلامية بهم أن اضطراب الأحوال عليهم ، وبقاءهم في خوف دائم من شعوبهم ، وظهور المعارضة لما فعلوه من خيانات لأمتهم بدأت بإقصاء شريعة رب السموات والأرض عن أن تكون حاكمة على كل شيء ، أن ذلك سببه ما جنته أيديهم ، فالله تعالى لا يصلح عمل المفسدين .

كما قيل :

إذا ضيّعـــت أول كــل أمـر ** أبــت أعجــازه إلاّ التــواء

ولن ينفعهم اليوم أن يركضوا إلى شريعة رب السموات والأرض التي ضيعوها ولم يقيموا لها وزنا ، لن ينفعهم أن يركضوا إليها ليوظّفوها لتغطي خياناتهم ، ولتتسر سوءآتهم ، وسيفضحهم الله تعالى على الملأ عاجلا أم آجلا ، وسيظهر عوراتهم أمام الأمة ، وسيتبين لها ما كانوا يحيكون لها في الخفاء مع أعداءها يوما ما .

أما الجواب على سؤالك عن الكفار كيف يكونون أهل حرب وأهل ذمة وأهل عهد ومستأمنين في الشريعة فنقول وبالله التوفيق :

في شريعة الله تعالى :

الكفّـار إما أهل حرب وإما أهل عهد .

وأهل العهد ثلاثة أصناف :

1ـ أهل ذمة
2ـ وأهل هدنة
3ـ وأهل أمان .

وقد عقد الفقهاء لكل صنف بابا فقالوا باب الهدنة باب الأمان باب عقد الذمة .

ولفظ الذمة والعهد يتناول هؤلاء كلهم في الأصل .
وكذلك لفظ الصلح فإن الذمة من جنس لفظ العهد والعقد .

** وأهل الذمة لهم ذمة مؤبدة وهؤلاء قد عاهدوا المسلمين على أن يجري عليهم حكم الله ورسوله إذ هم مقيمون في الدار التي يجري فيها حكم الله ورسوله .

** بخلاف أهل الهدنة فإنهم صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم سواء كان الصلح على مال أو غير مال ، فلا تجري عليهم أحكام الإسلام كما تجري على أهل الذمة ، لكن عليهم الكف عن محاربة المسلمين وهؤلاء يسمون أهل العهد وأهل الصلح وأهل الهدنة .

*وأما المستأمن فهو الذي يقدم بلاد المسلمين من غير استيطان لها .

وهؤلاء أقسام :

*رسل .

*وتجار.

*ومستجيرون حتى يعرض عليهم الإسلام والقرآن فإن شاؤوا دخلوا فيه وإن شاؤوا رجعوا إلى بلادهم وطالبوا حاجة من زيارة أو غيرها .

وحكم هؤلاء ألاّ يهاجروا، ولا يقتلوا ، ولا تؤخذ منهم الجزية ، وأن يعرض على المستجير منهم الإسلام والقرآن فإن دخل فيه فذاك وإن أحب اللحاق بمأمنه ألحق به ولم يعرض له قبل وصوله إليه فإذا وصل مأمنه عاد حربيا كما كان .

ويلحق بهؤلاء من يحتاجهم المسلمون مثل حاجتهم إلى التجار من أهل الصناعات والخبراء في سائر المجالات التي يحتاجها أهل الإسلام .
ــــــــــــــ

وهل يجوز لولي الأمر القائم بالشرع أن يعقد معاهدة مؤبدة مع الكفار ؟

لا يجوز له ذلك باتفاق العلماء هي باطلة شرعا وكل ما يترتب عليه باطل .

لكن يجوز له أن يجعل المعاهدة مؤقتة لازمة بمعنى أن لا ينبذها متى شاء ، بل هي لازمة إلى أن ينتهي أجلها .

ويجوز له أن يجعلها مطلقة غير لازمة ، بمعنى أنه له أن ينقضها بشرط أن ينبذ إليهم أولا عهدهم ، ولا يغدر بهم .

أما أن يجعلها مطلقة لازمة ، فهذه هي المؤبدة التي لاتجوز وهي باطلة شرعا.
قال ابن القيم : والصواب أنه يجوز أن يكون العهـــــــــــد أو المعاهدة مطلقــة ومؤقتة فإذا كانت مؤقتة جاز أن تجعل لازمة ولو جعلت جائزة بحيث يجوز لكل منهما فسخها متى شاء كالشركة والوكالة والمضاربة ونحوها جاز ذلك لكن بشرط أن ينبذ إليهم على سواء .

ويجوز عقدها مطلقة وإذا كانت مطلقة لم يمكن أن تكون لازمة التأبيد بل متى شاء نقضها وذلك أن الأصل في العقود أن تعقد على أي صفة كانت فيها المصلحة والمصلحة قد تكون في هذا وهذا .

وللعاقد أن يعقد العقد لازما من الطرفين وله أن يعقده جائزا يمكن فسخه إذا لم يمنع من ذلك مانع شرعي وليس هنا مانع بل هذا قد يكون هو المصلحة فإنه إذا عقد عقدا إلى مدة طويلة فقد تكون مصلحة المسلمين.
وعامة عهود النبي مع المشركين كانت كذلك مطلقة غير مؤقتة جائزة غير لازمة منها عهده مع أهل خيبر مع أن خيبر فتحت وصارت للمسلمين لكن سكانها كانوا هم اليهود ولم يكن عندهم مسلم ولم تكن بعد نزلت آية الجزية إنما نزلت في براءة عام تبوك سنة تسع من الهجرة وخيبر فتحت قبل مكة بعد الحديبية سنة سبع ومع هذا فاليهود كانوا تحت حكم النبي فإن العقار ملك المسلمين دونهم .

وقد ثبت في الصحيحين أنه قال لهم نقركم ما شئنا أو ما أقركم الله.

وقوله ما أقركم الله يفسره اللفظ الآخر وأن المراد أنا متى شئا أخرجناكم منها .

ولهذا أمر عند موته بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب وأنفذ ذلك عمر رضي الله عنه في خلافته . أ.هـ
ــــــــــــ
والحاصل :
أن المعاهدين من الكفار ثلاثة أنواع :
أهل ذمة وهؤلاء هم الذين ارتضوا أن يعيشوا بين المسلمين مقابل الجزية وعهدهم مؤبد .
وأهل هدنة ولا يجوز أن تكون الهدنة مؤبدة ولكن يجوز أن تكون مؤقتة ومطلقة
فإن كانت مؤقتة صح أن تكون جائزة بمعنى أن يشترط ولي الأمر أن له أن ينهيها متى شاء
وصـح أن تكون لازمة بمعنى لا ينهيها حتى تنتهي مدتها .
وإن كانت الهدنة مطلقة لم يصح أن تكون إلا جائزة فقط ، ولا يصح أن تكون لازمة باتفاق العلماء ، لأنها ستؤول إلى أن تكون مؤبدة ، وإنما حرمت المؤبدة وكانت باطلة لأنها تؤدي إلى تعطيل الجهاد وهو من أهم واجبات الإمامة بالإسلام، فواجباتها حفظ الدين في داخل الدولة الإسلامية ، وحمله إلى خارجها بالجهاد ، ولم يكن للدولة مشروعية في الإسلام أصلا إلا من اجل تحقيق هذا الهدف.
والله أعلم .


الكاتب: سائل
التاريخ: 13/12/2006