إنهـا السُّنـن !

 

إنهـا السُّنـن !
أهم السنن الكونية في العلاقة بين الحكام والمحكومين
.
حامد بن عبدالله العلي
.
الحمد لله ، والصلاة ، والسلام ، على نبيّنا محمّد ، وعلى آله ، وصحبه ، وبعد :
.  
فقد قال تعالى : ( فلن تجد لسنّة الله تبديلا ، ولن تجد لسنّة الله تحويلا ) ،
.
 وذلك أنّ الله تعالى قـد أجرى خلقه على سُنَنٍ لا تتغير ، إلاّ بمشيئة الذي أجراها سبحانه ، وليس ذلك في الماديـات فحسب ! بل في كلّ شيء من قوانين الحياة الدنيا ، حتى تلك التي تربط حياة البشر ببعضهم كلّها ، ومنها الحياة السياسية ، والعلاقة بين السلطة ، والرعيّة ، والدولة ورعاياها ، والحاكم ومحكومِيه !
.
ولاريب أنّ من أعظم أسباب النجاح ، معرفة سنن الله في الحياة ، والتفاعل معها انسجاما ، أخذاً بها ، واستعمالاً لها ، وبناء المشاريع على أساسها.
 
ولهذا قال تعالى عن ذي القرنين ( إنـّا مكنـّا له في الأرض ، وآتيناه من كلّ شيء سبباً ) ، وإنمـّا مُكّن في الأرض ، لما أعطي أسباب التمكين .
.
وليت شعري ، كم يخطيء المتحمّسون المخلصون من بناة المشاريع الإسلامية ،  عندما يقول قائلهم : ( نحن أقمنا هذا لنصر الدين ولرفع كلمة الله ، ولن يسقط ) ، متناسين أو غافلين ، عن أنّ الله تعالى لاينصر من فرّط بالأسباب ، وأضاع الإستفادة من وسائل العصر ، ومن أسباب القوة فيه ، التي تسبقها قراءةٌ واعية لواقعـه $$$
.
ولقد رأى خالد بن الوليد رضي الله عنه أنّ أسباب النصر في مؤتة ، غير مواتية ، فآثر الإنسحاب من المعركة ، لمستقبل يكون فيه الإسلام أعظم قوة ، وأقدر ، فكان ما فعله خالد نصراً ، وسماه النبيُّ صلى الله عليه وسلم حينئذ ، سيف الله المسلول ،
.
 ولم يقرأ الحسين رضي الله عنه _ وكان من أكرم الناس على الله _ المعادلة السياسية قراءةً صحيحة ، فلم يتمَّ أمره ، وقُتل شهيدا بأبي هو أمي !
.
فلستم أيها الإسلاميون بخيرٍ من سيف الله المسلول ، ولا أكرم على الله من الحسين ! ، فإن عجزتم عن استكمال أسباب النجاح الكونيّة ، وتخلفتم عن توفير عوامل النصر القدريّة ، فلن تنجح مشاريعكم مهما كان إخلاصكم قويما ، وحماسكم عظيما!
 
هذا .. وليس هذا المقال لسرد أحكام الشريعة في العلاقة بين الحاكم والمحكوم ، بل في ذكر سننٍ كونيـّة ، قدريـّة ، لاتتغيـّر ، ولا تتبدّل ، كموازين الطبيعة التي أقام الله الخلق عليها .
.
وسواء سكت الناس عنها ، أو نطقوا بها ، وسواء كره الحكام أم سخطوا ، هي ماضية في الخليقة ، مضاء القضاء والقدر ، كتعاقب الليل والنهار ، وجريان الشمس والقمر ،
 
وهذه أهمـها :  
 
1ـ ولاءُ الشعب للسلطة على قدر عدلها فيهم ، وأدائها للأمانة ، ولهذا ذكرت آية طاعة ولاة الأمر ، بعد أمرهم بالعدل ، وأداء الأمانة ، في سورة النساء.
.
2ـ واحترامهم لها ، على قدر احترامها هي لقوانينها ، ( إنما أهلك الذين من قبلكم ، أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإن سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ).
.
والذي نفسي بيده ، لو جمع الحاكم كلّ مفتٍ يتاجر بدينـه ، واستأجر كلّ لسان خطيب منافق مفوّه ، ليكْسرَ هذه السنة الكونية ما استطاع إلى ذلك سبيـلا ، وكيف لعمري ينقض سنة الله تعالى ؟!! ولكنهم زعماءُ حمقى ، وبطانة من علماء السوء أشد حمقا منهم !
.
3ـ وما ظهر في السلطة من انحراف سَرى إلى الناس بحسبه ، سريان العدوى في الأجسـاد ، والوباء في البلاد ،
.
 فما تراه في الناس من فساد ، وخيانة ، إنما هو انعكاس عمّا في السلطة ، كما قال الصديق رضي الله عنه لما سُئل : ما بقاؤنا على هذا الأمر ، قال : ( ما استقامت لكم أئمتكم ) ، يعني إذا انحرفوا انحرفتم
.
وقد قال علي رضي الله عنه  ، لعمر رضي الله عنه : ( عففت فعفّت رعيّتك ، ولو رتعت لرتعوا ) ، كما أورده ابن كثير في البداية والنهاية وغيره ، وقد قيل ( الناس على دين ملوكها ) !  
.
4ـ والظُّلم لايمضي إلاّ إلى مصرعِهِ ، وعقوبته معجّلةٌ في الدنيا ، ولهذا تسقط الدولة الظالمة وإن مسلمة ، وتدوم العادلة وإن كافرة .
.
5ـ وفطرةُ الناس على بغض الطغيان ، وكراهية الحاكم المستكبر ، وعلى حبِّ العدل ، والخضوع للحاكم المتواضع للرعية المتحـِّبب إليهم ، ولهذا تسقط الأنظمة التي يُزرع في قلوب الناس بغضها ، ولو بعد حين ، وإذا أردت أن تتنبأ بقرب السقوط فقس على ما يُلقى على ألسنة الناس من ألفاظ البغض ! ومهما استعملت السلطة من وسائل القمع ، والترهيب ، فلن ينفعها حينئذٍ ، وكم في سقوط فرعون مصر حسني من عبر .
.
6ـ وكلّما سكت الشعب عن الظالم عوقبوا بطول أمد ظُلْمِه ، وارتفاع تكلفة إزالتهِ ، وهذا معنى قولهم _ وليس بحديث_ ( كما تكونوا يُولىّ عليكم ) أي بسكوتكم عن الظالم تستحقونه جزاء وفاقا !
.
7ـ والإستبداد مفضٍ إلى سوء العواقب.
.
8ـ والشورى مفضية إلى حسن العواقب ، حتى في غير الخير ، فإنها تقلّل الشر! كما أخوة يوسف ، تشاوروا فلم يقتلوه وألقوه في الجب !
. 
ولهذا لما أمر الله بالشـورى ، وسَّطَها بين أعظم ركنين بعد الشهادتين ، إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، ( وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون ) ، وجعلها واجبة على أمة الإسلام ، إذ العقول الجماعية أقرب إلى الهدى ، وأدنى إلى الصـواب .
.
8ـ وثلاثٌ تدورُ على أهلها ،  مكر السوء : ( ولايحيق المكر السيّء إلاّ بأهلِهِ) ، والغدر :  ( ومن نكث فإنما ينكث على نفسه ) ، والبغي : ( يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم )
.
10 ـ وتسقط الدول إذا انقطع الانسجام بينها ، والشعب ، ولهذا كلما كانت السلطة نتيجة الفرز الفطري للمجتمعات ، أعني في تسيُّـدِ من هو أعلى في سلُّم المؤهّلات ، استمرت حالة الإستقرار فيها ، وتنحلّ عراهـا إذا آلت السلطة إلى التوريث الذي يعطّل هذه السنّة الفطرية ، إلا إذا كان التوريث يورّث معه تلك المؤهّلات ، منسجما مع رضا الشعب عن طواعية
.
11 ـ وإنما يطول بقاء نظام الحكم ما جمع سلطانُه بين قوّة حليم ، ورفِقْ حازم ، ومشورة رشيد ، وعدل قدوة.
.
12 ـ ومن صلحت سريرتُه للإصلاح أيّـدَه الله بحبِّ الناس ، ووفقه : ( إن يريدا إصلاحاً يوفـّق الله بينهما ) ، وهذا بين الزوجين فكيف بالإصلاح العام ؟! ولهذا قال تعالى على لسان نبيّه شعيب الموصوف بخطيب الأنبياء ، معقّبا بالتوفيق على إرادة الإصلاح : ( إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت ، وما توفيقي إلا بالله ).
.
13ـ ومن انطوي قلبُه على أراد الإفساد صار إلى السفول ، والخيبة ، قال تعالى : ( إنّ الله لايصلح عمل المفسدين ) .
.
14ـ ومن حسُنت نيّتـُهُ لإصلاح رعيّتهِ ، وصدقت أمانتُه فيهم ، أظهر الله ذلك على فلتات لسانه ، وحُسْن أعماله ، ونطقت به ألسنة الناس ، وانشرحت له صدورهم ، و العكس بالعكس .
.
وهذا في كلّ قائد ، وليس في السلطان فحسـب .
.
15ـ وتتجاوز الشعوب أخطـاء السلطة إذا عظُمت حسناتها ، وأما حَسَنةُ الحسنات فهي حماية الرعية من بغي الناس على بعضهم ، ومن غائلة العدوّ الخارجي ، وحفظها الضرورات ، ولهذا تسامح العلماء في حضارتنا ، فيما مضى ، في شروط الحاكم مع هذه الحسنة العُظمى ، فإن غدت السلطة هي الباغية على الناس ، جرت عليها سنّة الله في البغي .
.
16ـ وكلّما كان في الناس قائمون بالقسط ، ودعاة للإصلاح ، ومنكرون للبغي ، وناكرون للفساد ، تأخرت عقوبة الظلم ، والعكس بالعكس ، ( وما كان ربك ليهلك القرى بظلم ، وأهلها مصلحون ) .
.
17 ـ وكلّما كانت أمور الدولة منوطةٌ بالأمناء الكبار ذوي العقول النيـّرة ، والتجارب  ، مستعينين بحماس الشباب ، صلُحت ، فإن آلت إلى الصغار اضطربت ، كما ورد في ذم إمارة الصبيان ، وهذا أيضا في شأن العلم  ،ولهذا ورد من أشراط الساعة أن يُطلب العلم عند الأصاغـر !
.
18ـ والسلطة مثل السُّوق يُجبى إليها ما يَنفـُق فيها ، فإذا رأيت الحاكم حوله ذوو الخيانة ، وضعف الديانة ، فقد وَجدوا عنده مـا تروج به بضاعتُهم ، والعكس .
.
19ـ وكلّما كانت السلطة أجمع لمؤهلات القيادة ارتقت بالشعب ، وعلى قدر ما يرونها في أنفسهم ، أعلى منهم ، يتطلَّبون معالي الأمور ، فيعتلون مدارج المجد .
.
20ـ وعـزُّ الدولة _ ولاريب نحن المسلمون نقول بعد الله ، غير أنّ هذه سننٌ جارية على كلّ البشر _ باستغنائها بسلاحها ، وبعقول مفكّريها ، وبسواعد أبنائها ، وبقوة إقتصادها ، فإنّ فقدت بعض هذه ، أو اعتمدت على غيرها ذلّت له بقدر ذلك
.
21ـ ولاشيء يفجـّر الثورات بالشعوب كمظالم تنتشر ، وأُذُن سلطة صمّاء عن نهب الثروة ، وترك العباد في فقر ، وحرمان ، وبطالة ، فكيف إذا كانت هي الناهبة ، العابثة بثروة الوطـن ؟!
.
22ـ وكلّما ارتقت الشعوب بعقولها ، وتطوّرت معرفتها بوسائل تحسين سُبُـل الحياة الكريمـة ، وبنُظُم إدارة الشئون العامة ، طلبت أنظمة حُكْمٍ أقدر على تحقيق أحلامها ، ورفضت ثقافة القطيع ، وتحرّرت من عبودية الأنظمـة المستبدة ، وهذا هو إكسير الثورات ، ووقود التغيُّرات السياسية العظمى.
.
23ـ ولاشيء يدمّر هويّة أمّة ، ويفكّك ثقافتها ، ويقودها إلى الإنقراض ، مثل سلطة لا تجعـل رسالة تلك الأمة هي همها الأكبر ، ولا تحمل مشروع نهضتها وعزّتها على عاتقها ، وكلّ يوم تتأخر الأمة في إزالة تلك السلطة ، إنما تقترب من الهلاك .
هذا ونسأل الله تعالى أن يبصرنا في ديننا ، ويلهمنا معرفة الحق واتباعه ، ورؤية الباطل واجتنابه ، وحسبنا الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصيـر  

الكاتب: حامد بن عبدالله العلي
التاريخ: 21/04/2013